top of page

الكتابة، محاولة لرد الاعتبار!

  • صورة الكاتب: Siin land
    Siin land
  • 26 أغسطس 2024
  • 4 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 21 مايو


الكتابة

يقول دولوز ان المرء يكتب لأنّ شيئًا يسري داخله أو ثمّة أشياء، والكتابة صيرورة هذه الأشياء.وكم هي الأشياء التي تَسري داخلنا كنهرٍ جارف؟ كم هي الأشياء التي تُحرِك المياه الراكدة في مُستنقعات قُلوبنا وعقولنا؟ لا بُد انها كثيرة في هذا العالم، لهذا نَحنُ نَكتُب ونَهذي ونُحرر مخيالنا، نَهذي عن العالم والشعوب والسماوات السبع ونَكتُب، نسمع الأصوات الاَتية من أعماقنا مُحملة بالبراري والحُروب والموت والرغبة ونَكتُب. وأحيانًا لا تأخذنا الكلمات الى ما هو أبعد من ذواتنا، فنَكتُب قصصنا ومشاعرنا ونستسلم أمام سحر غريب يَكمُن في القبض على الكَلِمة المُناسبة أو الوصف المُناسب لما نُشعُر فيه! يُشبه الأمر اصطياد سَمكة ذهبية من محيطٍ شاسع فالكتابة فعل اصطياد الكلمات من معاجم اللُغة التي هي ليست مُجرد وسيلة للتعبير عن المعنى بل أنها شريكة في تشكيل المعنى .


من يسبق الاَخر؟ اللغة أم الواقع؟

أحيانًا، تَسبق اللُغة شُعورنا ولا تكن مجرد نتيجة له، في روايته كائن لا تحتمل خِفته للكاتب ميلان كونديرا، يستخدم توماس الشخصية المركزية في الرواية  الاستعارة الأسطورية المتمثلةً في قصة موسى الذي أخرجته ابنة فرعون من السّلة في النهر، للتعبير عن انتشاله لتريزا التي يراها طفلة مهملة بحاجة إلى العون والاقتراب الملتصق به، واتّضح خياله الخصب في الصور الفنية في روايته؛ إذ شبّه مشهد حبيبته التي تلبس قبعة رجالية والتي رفعها عن رأسها بمن يمحو شاربين رسمهما طفل عفريت على صورة مريم العذراء ، وقد عبّر كونديرا عن أنّ الاستعارة شيء خطير لا يمكن المزاح فيه، مبررًا ذلك لإحدى شخصياته بأنّ "الحب قد يولد من استعارة واحدة"الحب يبدأ في اللحظة التي تسجَّل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة ". لذلك علينا ان نحذر أحيانًا من تعبيراتنا لأنها تمتلك سُلطة علينا. كما قال حسين البرغوثي "" لقبوني بأهبل وفرخ أهبل، السُلطة السحرية التي يمارسها الاسم على المسمى فظيعة، ليست المسألة أن هناك شيئًا أو شخصًا يُسميه أقاربي أهبل بالعكس!، يتم خلق شخص أهبل بداخل حسين الحقيقيي، هوية بلهاء، يوحون لي بانني أهبل فأصير ما يوحون لي".


حسين البرغوثي


الكتابة بصفتها رَد اعتبار للمُهمشين

أنهيتُ من فترة قراءة رواية " رامبو الحبشي " للكاتب حجي جابر الذي يحاول من خلال هذه الرواية إعادة الاعتبار لامرأة هررية رافقت آرثر رامبو في سنواته الأخيرة في الحبشة، بعد أن تم تجاهلها من قِبَل الشاعر، حيث لم يذكر عنها كلمة واحدة. يمنح حجي جابر هذه المرأة الهررية اسمًا و صوتًا وتاريخًا وذاكرة ويجعل منها شخصية رئيسية بعد أن أقصاها رامبو ووضعها على الهامش، وهكذا يكون فعل الكتابة بمثابة رد اعتبار للمُهَمشين، انتقام من مركزية التاريخ، واعادة صياغة للواقع، فكم كانت كبيرة خيبة الهررية حين كانت تبحث عن اسمها في رسائل رامبو لعائلته ولا تجده، لا تجد شيئًا مكتوبًا عنها رغم انها كانت قريبة من رامبو وتشاركه الكثير من اللحظات، وكان هو بالنسبة اليها الحكاية برُمَتِها، ولكنها لم تَكُن شيئًا في سيرته الحافلة. وقد جاء حجي جابر ليأخذ في ثأرها ويجعلها عيوننا التي نتعرف من خلالها على شخصية رامبو! هذا هو الجميل في عملية الكتابة، أنك تختار أبطالك مهما تجاهلهم التاريخ والاَخرين وتُغير ترتيب العالم، تُسلط الضوء على تفصيلة صغيرة في حفلة كبيرة وتجعلها الأهم، تَزيل القداسة وتخلقها وتعيد تشكيلها ان اردت، تختار وجهة النظر التي تُريدها لتَحكي حكاية لا يعرفها الناس الا من منظور واحد.

رواية رامبو حبشي


نحنُ نكتُب لأن الزمن لا يعود للوراء

الكتابة بمثابة عملية اغلاق الدوائر المفتوحة في حياتنا وخياطة للجُروح النازفة

أما على نحو علاجي، يعتبر عالم النفس الأميركي "جوشوا سميث" أن الكتابة هي وسيلة فعالة تساعد الناس على ترجمة تجاربهم والغوص في أعماقهم، فالكتابة بمثابة عملية اغلاق الدوائر المفتوحة في حياتنا، وخياطة للجُروح النازفة وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجريت في كانساس أن النساء المصابات بسرطان الثدي تعرضن لأعراض انزعاج أقل من غيرهنّ في الأشهر التي تلت قيامهنّ بالكتابة التعبيرية. في سياق متصل، لاحظ "بينيبكر" أن بعض أنواع الكلمات المستخدمة قد تغيرت على مدار الجلسات، فأولئك الذين التأمت جراحهم بشكلٍ سريعٍ كانوا قد بدأوا الكتابة باستخدام الضمير المتكلم "أنا"، لكنهم في الجلسات اللاحقة انتقلوا إلى قول "هو" أو"هي"، مما يعني أنهم باتوا ينظرون إلى الحدث من وجهات نظر أخرى، كما أن استخدامهم لكلمة "بسبب" يعني أنهم كانوا يفهمون الأحداث ويضعونها في سردٍ معيّن.

تقول المدرسة الجشطالتية في علم النفس أن سبب التوتر والقلق في حياتنا يأتي من الأعمال غير المُنتهية، من الكلام الذي لم يُقل والأفعال التي لم نقُم بها، اذ أن هذه الأعمال غير المُكتملة تَبقى تَحفُر داخلنا باحثة عن خاتِمة، وفي طريق بحثها تَعبث فينا، في ذاكرتنا ومشاعرنا وحتى أفكارنا. كم مرة انهينا حديث مع أحد وبقينا نُردد بعدها " ليتني قُلت كذا.." " ليتني رددتُ بهذه الطريقة " وكم حكاية شعرنا أنها لم تنتهِ بالطريقة المُناسبة؟ كَم مرة شعرنا أننا بحاجة الى خاتِمة؟ وكم كانت هذه الحاجة مُلِحة في قصص الحُب الفاشلة، فاننا كثيرًا ما نشعر بعد نهاية قصة حب، بأننا نُريد خاتِمة، نُريد اجراء مُحادثة حقيقية مع الشريك نَحكي فيها عن مشاعرنا، نُبرر فيها ذواتنا ونشرح أسبابنا، وبما أن استحضار الأشخاص ليس مُتاحًا دائمًا، وبما ان استرجاع المواقف غير مُمكن، يأتي دور الكِتابة لأنها تُساعدنا على اعادة صياغة المواقف بالطريقة المُناسبة واعادة ترتيب وهيكلة الأمور والأحداث . اذًا نَحنُ نَكتُب لأنه لا يُمكننا اعادة الزمن الى الوراء! ولأنه كما تقول أمنا رضوى عاشور " الحكايات التي تنتهي لا تنتهِ ما دامت قابلة لأن تُروى"


رضوى عاشور


ايجاد التوصيف المُناسب

بفترة ما كُنتُ أجرب ان أساعد بعض الأصدقاء لتجاوز مشاعرهم السيئة باختيار الكلمة المُناسبة التي تُعبر عن مشاعرهم هذه، فالكلمة هي تكثيف لما يشعر به الانسان، في مرة جلسنا وصديقتي ما يُقارب الساعة لنَجِد الوصف المُناسب لما تَشعُر به اتجاه مُديرها بالعمل الذي فصلها فصل تَعسفي.. بدأت تقول أنه خذلها فقد قدمت الكثير من المجهود في هذه الوظيفة، سألتها هل كلمة خُذلان هي المُناسبة أم انها غير كافية؟ قالت ليست كافية... قلت لها التَخلي؟ فقالت ربما.. وبعد بحث وصلنا الى صيغة نهائية. اذ قالت شعرت وكأنه قذف بي من الطابق العاشر ولم يتكلف عناء الاطلالة بعدها، اذ لم ينظر الى الأرض ويرى ما حَلَ بي. أتذكر انها بَكَت كثيرًا بعد وصفها هذا، وكان البُكاء يُشبه بُكاء ادراك سر ما لن تعود بعده الأمور كما كانت.. فالكتابة أيضا علاج للصدمات النفسية! أوليست الأخيرة ذكريات مُبعثرة وغير مُتسقة وغير مُتسلسلة؟ اذا تَجاوزها يَكمُن في اعادة تنظيمها وعنونتها في العقل.





Comments


bottom of page