الكتابة: مُواجهة عنيفة مع الذات!
- Siin land
- 8 أبريل
- 3 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 9 أبريل
لطالما شعرتُ أنني على وشك ولادة عمل أدبي ما، وأعتقد أن تعبير " ولادة " دقيق للغاية، الا أن الكاتب لا يَحمل تسعة شهور بل سنواتٍ طويلة، يحمل كُل العُيُون التي اخترقته وكُل قصص الحُب التي مر بها وكُل الأفكار التي شكلت فارقًا الى حين وقتُ المخاض، يُولَدُ كتابًا أو نصًا، وان هذا الوقت الذي يسبق المخاض يعبثُ فينا بصمت، حيث أن اللاكتابة ليست فراغًا، بل مرحلة ضرورية، فيها تتخمر الفكرة، تنضج، وتبحث عن شكلها بهدو، يُشبه الأمر كعكة تختمر في الفُرن ، فاذا استعجلتها وأخرجتها قبل أوانها تَلِفَت! هكذا هي الكتابة! تحتاج وقتها ولا يجوز فيها اقتلاع الفكرة قبل أن تكتمل ملامحها.
أحيانًا كثيرة أجلسُ أمام الورق فلا أكتب شيئًا، لكن في الداخل، حراكٌ لا يَتوقف كأن الكلمات تتحسّس الطريق. فلا أبدأ الكتابة بسهولة.أُقيم طويلًا في "ما قبل"، كأنني أنتظر إشارة لا أعرف مصدرها، أو صوتًا يهمس لي: الآن. لكنني في الكثيرُ من المرات لا أكتب.أظل أعيش في التوتر اللذيذ للاقتراب.أعتقد أن الكتابة بُعدٌ زمنيّ بامتياز.ولها حواسّها التي لا نراها.تحتاج إلى مناخ، وتربة، وانتظار يشبه صلاة الصامت.
الكتابة كضرب من الشجاعة
نحنُ نكتب أحيانًا عن أمورٍ عدة تدور في فلك هذا العالم كي لا نَكتُب عن شيءٍ بعينه! ترى كاتبًا يخترعُ شخصيات وقصص وحيوات، يَكتُب عن الصحاري والبحار، لكنهُ يَقفُ عاجزًا أمام الكتابة عن عن المرةِ الأولى التي خَفَق فيها قلبه. فالكِتابةُ فعل مواجهة، فمن يأتي بتلكَ الشجاعة التي تجعلنا نَقف أمام حقيقة ذاتنا؟ أن تَكتب قصتك يعني ان تكون مُستعدًا للتَعُرفِ على ذاتك وعلى ما حولك بأثرٍ رجعي. أن ترى الماضي مُنبسطًا أمامك بكُل ما يحمل من شخصيات وأغانٍ ومشاعر، لا أقصد ان الأمر مُقتصرًا على نَبش الذاكرة فالكتابة أحيانًا تكون تحرير للخيال، ولكن حتى الخيال لا يُمكن مُحاكاته دُون الرُجُوع الى الماضي. انها اللحظة التي تطفو فيها الاعماق على السطح وترى ما كان كامنًا. يُشبه الأمر التحديق طويلًا أمام المرآة حتى تشعر انك على حافة الجُنون لكن في الكتابة لن يُحل الأمر بمجرد ان تشيح بنظرك. لأنك لا تنظُر بل تغوص!
مُحاولة لتجميع الفُتات المُتناثر!
لا تَكُن الكتابةُ أحيانًا مُحاولة للقول، بل مُحاولة للعودة الى الدَهشة الأولى. فاننا حين نَكتُب، نرسمُ خريطة ذواتنا ونَمُدُ خطًا ناظمًا لفتراتِ حياتنا، فكُل كلمة نَكتُبها هي كسرة من ذواتنا، كُل نصٍ هو مُحالة لتجميع " فُتات " الذاكرة المُتناثر. نسترجع الذكريات نستحضر الأشخاص كما لو كانوا أشباحًا تسكن في عقولنا لنُقابلهم في المكان الذي توقفت فيه الذكرى. أحيانًا نَكتُب عن أشخاص دون أن ندري، وكأن الكلمات تفضح ما كان مخفيًا في قلبنا، نجد صورة وجهٍ يظهر فجأة بين السطور، أو ضحكةٍ قديمة تهمس في مسامعنا، تجد نفسك تكتب عن مكان زرته منذ سنوات، فتكتشف أن ذلك المكان كان يحمل في طياته مشاعر قد نُسيت، أو ذكرى ضحكة من شخصٍ مضى. الكتابة تمنحك فرصة السفر عبر الزمن، تجلب إليك الأشخاص الذين كانوا معك وتَدُبَ الحياة فيهم مُجددًا.
أجمل النصوص هي تلك التي نعيشها، لا التي نكتبها
ارتدى بدلته الرسمية وذهب الى احدى المُحاضرات ليتحدث عن بحثه الأخير حول الاقتصاد السياسي، دخل القاعة بملامح حيادية، اعتلى المنصة وبدأ بالحديث بلغة جزلة ومصطلحاتٍ لا يفهمها سوى من أفنى حياته بقراءة الاقتصاد السياسي. سمعه الحراس الذين يقفون بمحاذاة باب القاعة. فهمس احدهم لزملائه" لولا احرف الجر اللي بقولها مكنتش رح اميز انه بحكي عربي" وضحكوا. بعد انتهاء المُحاضرة، خرج من القاعة مُسرعًا وركب سيارته، ومن ثم شغل أغنية لعمرو دياب بصوتٍ منخص، كي لا يتم القبض عليه مُتلبسًا وهو يسمع هذا النوع من الأغاني الشعبوية التي يسمعها جميع الناس، فهو يخاف على صورته كمُثقف. في اليوم التالي، جلس في المقهى مع أوراقه وقلمه، وأحب أن يكتب شيئًا عن الامرأة التي يُحِبُها، استحضر كل المجاز والاستعارات كي يكتب نصًا شديد البلاغة، ولكن عبثًا. لَعَن اللُغة التي تكون صديقة صدوقة له حين يكتب عن الرأسمالية والاستعمار والاقتصاد، وتدير ظهرها له حين يريد ان يقول شيئًا من قلبه. وفي هذه الأثناء وبالصدفة المحضة، دخلت تلك المرأة التي يحبها الى المقهى ونظرت اليه بحُب، فلملم أوراقه ووضع القلم جانبًا وكان هذا أجمل نصًا يكتبه في حياته .
Commenti