من يرثي مدينة؟
- Siin land
 - 27 مارس
 - 4 دقيقة قراءة
 
ابحث عن مدينة كما يبحث الناس عن نصفهم الاَخر، لا أقصد المدينة كمعالم مادية، بل طاقة خَفية!لا تَهمُني العمارات ولا عرض الشوارع. كُل ما أريدُه مدينة تتحدث معي وتَعدُني، تفتح لي بوابات الصُدف والمُمكن! هُناك مُدنٌ بشوارعٍ ضيقة ولكنها تَعِدكُ بانفتاحٍ واسعٍ على الممكن والاحتمالات. وهُناك مدنٌ فيها مساحات شاسعة وشوارع واسعة ولكنها بَكماءٌ لا تسمع لها صوت، ولا مُتسع فيها للصُدفة، مجموعة هُلامية من الأشخاص يقطعون الشوارع بلا رُوح! والمدينة بالنسبةِ لي هي أن أرى شخصًا أعرفُه عن طريق الصُدفة ودون ميعاد! أن يكون هُناك دائمًا فُرصة للقاء، أن لا أشعُر بالاغتراب في الحيز العام، بل أشعر انني مُتماهية تمامًا مع المَكان، ولطالما شعرتُ في هذا التماهي. هل جَربت ان تقطع الشارع مرة في مدينة ما وشعرت أن كُل ظُروف المشهد مُواتية؟ الشمس في الزاوية الصحيحة، قلبك سَليم، عقلك مُتعافي وثمة خِفة ما في جسدك؟ هذه احدى علامات الوقوع في حُب المدينة! ثمة علامات أخرى كأن لا تنظر كثيرًا الى الساعة وأنت فيها، أن تحتفي بغيومها كما تحتفي بشمسها، أن تَشعُر برغبةٍ جامحة في أن تمشي في شوارعها عند الغُروب، أن تَسمع أغنيتك المُفضلة أثناء المشي وتشعر أن كُل ما حولك ديكور للأغنية! أن تُصبح أنت الأغنية.

هل تَمُوت المُدُن؟
هل تموتُ المُدن يا ترى؟ ما لون أكفانها؟
أذكُر أنني وقعتُ بحُب الكثير من المُدن من قبل ولكن بعضها فقد بَريقه مع الوقت، بالحقيقىة لا أعلم اذ تدريجيًا أو مرة واحدة ولكن يبدو لي الأمر وكأنه حدث مرة واحدة وفجأة. حيفا مثلًا مدينة لطالما أحببتها لكنني لا أعرف من سَرق السحر منها! من اختطفها في احدى الليالي ورماها في البحر! من الذي بَدَل عيُون الناس فيها وحولها من عيُون مليئة بالقصص الى عيونٍ مُحدقة بالفراغ؟ أذكُر انني كنتُ أحب أن امشي فيها بدون هُدى! وتأخذني قدماي الى حيثما تَشاء، أصعد أدراجها، أنزلُ أدراجها وكأنني أبحثُ عن شيء ما لا أعرف ماهيته، كأنني ألاحق ايماءة سحرية! أما اليوم فانني بالكاد أزورها. وعندما أفعل ذلك أشعُرُ بغصة، فمن الصعب أن تشتاق الى مكان وأنت مُتواجد فيه! أن تَعود الى مدينة ولا تَجدها.! تحاول سماع أغنيتك المفضلة فيها لكنها تَبدو لك كنشازٍ مُتواصل. هل تموتُ المُدن يا ترى؟ ما لون أكفانها؟ واذا ماتت المدينة فمن يَكون سُكانها؟ أشباح يحملون أجسادهم وقلوبهم الباردة! لا يبحثون عن شيء ولا ينتظرون شيء.
هل المُدُن أجمل في خيالنا مما هي على أرض الواقع؟
أعرفُ قصة عن شخصٍ كان يَحلُم طوال عُمره في زيارة الهِند وعندما أتيحَت له الفُرصة لزيارتها لم يَفعل، حينها سألوه الناس باستغراب لماذا لم تفعل؟ لماذا لا تريد تحقيق حلمك! فأجاب أنه يخاف من أن تكون الهند أجمل في خياله مما هي على أرض الواقع وانه لا يُريد تشويه هذا الحلم الجميل، بل يُفضل مواصلته. أتفق مع هذا الرَجُل تمامًا، ثمة مُدُن يجب ان تبقى على قائمة الأمنيات، يجب أن تَبقى موعودًا فيها، وأن تُحافط على خيالاتك عنها لأنها دائمًا أجمل في خيالنا الذي تَبلور بفعل القراءة عنها أو رؤيتها في الأفلام والمسلسلات، أو السماع عنها في الأغاني. من لَم يحلم بزيارة باريس بعد مُشاهدة فيلم Midnight in Paris؟ ومن لَم ينسُج صورًا بصرية في خياله عند سماعه صوت ملحم بركات في أغنيته أنا وانت وعينيك وسما اسبانيا؟ ومن لم يُسافر الى القاهرة عبر صوت الست؟ وماذا عن ليالي الأنس في فينا؟ هل يُمكن أن يزور أحدنا فينا ولا يتذكر هذه الأغنية!
لكن الحياةُ كلاسيكية في معظم الأحيان ولا يَحدُثُ فيها ما يَحدُث بالأفلام! أتذكر الاَن مُفارقة كوميدية، ذهبتُ الى بودابست أنا وصديقاتي بعد حوالي أسبوع من مشاهدتي فيلم Before we go الذي يلتقي فيه شاب وفتاة صدفةً على متن القطارمن بودابست الى فينا وتشتعل بينهما فتيلة الحُب ليُقررا قضاء الوقت معًا في فينا ويأخذونا معهم الى قصة حُب ساحرة. وحين ذهبنا الى ذات القطار الذي يَنقل من بودابست الى فينا، كنتُ سَعيدة لأنني في المكان الذي رأيته من أسبوع من وراء الشاشات، لكنه كان كارثيًا، اتذكر أننا لم نَجد كراسي فارغة للجلوسِ عليها فاضطررنا وصديقاتي الى أن نتفرق وتجد كُل واحدة فينا مساحة شاغرة في أرضية القطار للجلوس عليها وهكذا جلستُ انا على أرضية القطار وبجانبي حقييتي الكبيرة المُرتاحة أكثر مني غالبًا، وفوقي يقف رجُل أبيض مُسن لا يَكُف عن العَطس والنحنحة. وتساءلت في عقلي أين المُخرج ليوقف كُل هذا الغناء؟ّ!

حين تُقتَرَن المَدينة بشخصٍ واحد.
يقول هنري ميلر في رسالة لحبيبته أناييس ين " عندما كتبتُ في مقالتي بالأمس لو أني لم أذهب إلى أوروبا … لم أكن أقصد أوروبا، بل أنتِ. أوروبا هي أنتِ لكني لا أستطيع أنْ أجهر بهذا للعالم في مقالة" يَختصر هنري ميلر كُل أوروبا في حبيبته أناييس، فنتساءل نحنُ القُراء كيف يُمكن أن تَعني قارة بأكملها شخص واحد؟ ولكن كثيرٌ منا فَعل هذا، رُبما على مستوى مُدن! فأحيانًا نُحب مدينة بأكمها لأننا أحببنا شخصًا فيها، تُصبِح شوارعها أوسع فجأة، ويُصبحُ الليل أطول فيها، ويُصبح هوائها عليلًا. لا لأن شئًا ما تغير فيها، بل لأننا أحببنا ولأنها أصبحت شاهدة على حُبنا هذا الذي ينمو داخلها ويتَفجَر. وأحيانًا أخرى نَهربُ من المدينة التي لطالما أحببناها بسبب شخصٍ واحدٍ، شَوَه علاقتنا فيها وجَعلها تضيق علينا، وأصبحت مكانًا يُخَزِنُ ذكرياتنا السيئة. وكما يَقُول حسين البرغوثي " غريب كم يبدو المَكان كمصيدة أحيانًا " فسُرعان ما ندخل أماكن معينة حتى تَعصفُ بنا الذاكرة، وتُعيدُنا لنُسخةٍ ما مِنا تركناها ومضينا قُدمًا. ولكن على ما يبدو أن سطوة المكان أقوى منا وأنه يفرض قواعده علينا بلا كلل أو ملل ويُشكلُ قلوبنا كالعجينة!




تعليقات