البحث عن علا الجزء الثاني: بين النُسوية المُقَنَعة والعودة للذات
- Siin land
- 7 أكتوبر 2024
- 4 دقائق قراءة
على الرغم من أن معظم المسلسلات على "نتفلكس" مقسمة الى أجزاء عِدة، الا أن ليس كل تلك المسلسلات قادرة على خَلق ألفة مُستمرة مع شخصياتها كالمسلسل الكوميدي " البحث عن علا " الذي رافقنا لسنواتٍ طويلة منذ جزئه الأول " عايزة أتجوز" الذي كانت فيه عُلا تبحث عن عَريس، وفي كُل حلقة تتعرف على عريس محتمل، الى الجزء الثاني الذي كانت فيه عُلا متزوجة وأم وتَعيش في جو أسري يوحي بالاستقرار الا أن ينقلب كُل شيء رأس على عقب منذ الحلقة الأولى، حيث يقرر زوجها الطَلاق وتبدأ رحلة البحث عن عُلا حيث تَعود لتُفكر في نفسها وهواياتها وتفتتح مشروع جديد تُسميه فرصة ثانية تبيع من خلاله منتجات طبيعية للعناية بالبشرة مستخدمة شهادتها في الصيدلة، وصولًا للجُزء الثالث الذي تكون فيه عُلا أكثر نُضجًا بفعل الضربات الكثيرة التي تلقتها من الحياة والخيبات المتكررة التي أصابتها

الألفة التي أتحدث عنها تَكمُن في قدرة " عُلا" هند صبري و" أمها" سوسن بدر على خَلق خط ناظم مع كُل مراحل تطور شخصياتهن ، رغم التقلبات الكثيرة، ورغم حتى الاختلاف الطَبقي والاجتماعي والثقافي الذي حدث بين " جزء عايزة اتجوز" وجُزئين " البحث عن عُلا". فهناك فرق شاسع في نمط الحياة والزَمَن، وأيضا في طريقة التصوير والديكور والاضاءة وكُل عناصر المشهد الدرامي إلا أن عُلا كبُنية نفسية ما زالت مألوفة جِدًا وما زالت تُذكرنا بعُلا القديمة التي أحببناها بتخبطاتها وضياعها وحظها السيء حَد الضُحك. وأعتقد ان استراتيجية عُلا بالنظر الى عدسة الكاميرا والتحدث بشكل مباشر مع الجمهور عبر جُمل مستقطَعَة هي من ساهمت في خَلق هذا القُرب والتواصل بينها وبين المُشاهدين، فان هذه الاستراتيجية تَبني حميمية ما مع المُشاهد وتمنحه شُعور بأنه جزء من الحَبكة، اذ تنظُر عُلا الى عدسة الكاميرا في عيونها المُتعبة وتتحدث معنا وبهذا فهي تسمح لنا برؤيتها ببصيرةٍ أكبر، تلك الرؤية التي تجعلها تتعرى نفسيًا أمامنا لنرى عُلا البسيطة التي ما زالت تربط مصيرها بالاَخر، وتبحث عن الحُب والارتباط.

نُسوية مُقَنَعَة
في الجُزء الأول من المُسلسل انفصلت عُلا عن زوجها وتهدمت الصورة التي لطالما حلمت بها للعائلة السعيدة والمُستقرة، وبدأت في البحث عن ذاتها وشغفها الذي ضاع بفعل الانهماك في الحياة الزوجية والعائلية، وهُنا ظَهَر تأثير أجندة نتفلكس ونسوية مؤسسات التمكين الغربية، وعُلا ما كان لها الا ان تتشرب هذه المفاهيم كامرأة مُتعبة ومُتألمة، ولأن جُزء كبير من تبنيها هذه الأفكار كانت مجرد رد فعل فإنها فشلت في أن تفهم النسوية الحقيقية وبقيت في حالةٍ من التثبيت، عالقة حيث عُلا التي تبحث عن شريك. يُشبه الأمر مُراهقٌ متحمس لاعتناق أيدولوجيا ما فقط لأنها تُحقق له رغبة التمرد على أهله ومحيطه، وعُلا في الجُزء الثاني كانت تلك المرأة التي انكشفت على الحياة فجأة، وأخذت تَحفظ عن ظهر قلب حقوقها في الحياة والقوة الكامنة فيها ولكن دون ان تفهمها تمامًا، لذلك كان من السَهل جِدًا تشكيلها، اذ رأيناها تتغير تِبعًا للرجُل الذي يدخُل حياتها، وبهذا ففي كُل مرة كانت تعتقد فيها انها تقترب من الاستقلالية كانت تتحول الى امرأة أكثر تبعية، بدت عُلا شخصية ساذجة رغم ثورتها على كُل ماضيها وتمردها على " بواب العمارة" الذي يُمثل رأي المجتمع وأحكامه، لأنها خَرَجت من ثوب المجتمع لتلبس ثوبًا اَخر ليست هي من صممته، رُبما لو نظرنا الى الطريقة التي تربت فيها عُلا وتعامُل "ٍسهير" أمها معها سنعرف لماذا تتصرف على هذا النحو ولماذا تسمح للاَخرين تشكيلها كيفما أرادوا. إذا عُلا ليست امرأة نسوية، وهي لا تفهم من النسوية سوى قشورها كأي امرأة تألمت فتم إغراقها في شعارات الاستقلالية والقوة والتمكين، فتبنتها دون أن تفهمها تمامًا، ويظهر ذلك في حديثها مع صديقتها " نسرين" التي تعبر عن المرأة القوية والمستقلة، فحين قامت نسرين بالاعتذار من خطيبها هادي، استغربت عُلا من هذا السلوك واعتبرته بمثابة تقديم تَنازُل لا يُشبه شخصية نسرين القوية، الأمر الذي جعل نسرين تُوضح لعلا ان هذا ليس ضعفًا ولا يتعارض مع مبادئها بل أنه الحُب. في هذا المشهد نرى كيف أن عُلا لا تفهم النسوية والقوة على مستوى سطحي وتعتقد ان المرأة القوية هي امرأة لا تقع في الحُب ولا تعتذر. هذا الفهم المغلوط يُعبر عن ضياع عُلا، وهويتها المنقسمة بين ما تَرَبت عليه وما تشربته من المجتمع وبين عُلا التي مرت بتجرُبة انفصال صعبة وأدركت فجأة أنها كانت ترى الحياة من منظور خاطئ فهربت للنقيض.

إعادة الإنتاج الدائم للذات
ولكن الجُزء الثاني كان مُختلف، وكأنه بمثابة التوازن بين الماضي والحاضر، بين النسوية المُقَنَعَة والفِطرة البسيطة، بين فكر التبعية وعدم القدرة على العيش من دون رجل وفكرة الحُب،وقد تم طرح هذه المفارقة على لسان نسرين صديقة عُلا حين قالت انها تُريد ان تكون مع هادي بعينه وليس ان تكون مع شخص وحسب، يُشبه الجُزء الثاني حالة من التسوية مع الذات، ويُعبر عن دورة حياة الجُروح في قلوبنا، فبعد الألم والتَطَرُف في الهرب منه والضياع، نَجِد أنفسنا نعود لنقطة البداية ولكن بنُسخة أجمل وأكثر نُضجًا، فعلى الرَغم من أنه تبين لنا أن عُلا تُعاني من حالة " التثبيت" عالقة عند عُلا التي في جُزء عايزة اتجوز بذات السذاجة والعفوية. إلا أن هناك جُزء اَخر من شخصيتها أكثر نُضجًا. تُذكرني عُلا في مقولة سارتر" اعادة الانتاج الدائم للذات " التي تَعتبر الذات مشروع قابل للتطور وفي حالة تقدم مستمر، اذ يتم إنتاج نسخ جديدة تحمل امكانية أجمل لم نَكُن نظن أنها ممكنة أصلًا، فعلى الرَغم من ما يبدو على عُلا من " عُبط" إلا أنها تحمل وعي أقرب لأن يكون وعيًا فطريًا يظهر بصورةٍ جلية عندما تتحدث مع ابنتها وربما الحديث الأعذب بينهما يكون في الحلقة الأخيرة، فبعد الكثير من المحاولات الفاشلة في الالتزام بالاتفاق الذي عقدته عُلا مع ابنتها بأنها ستُركز أكثر مع حياتها العائلية ونفسها، تقول لابنتها انها تريد ان تُقيم معها اتفاق جديد مفاده انه لا يوجد اتفاق من هذه اللحظة فصاعدًا، وقد كان هذا المشهد ذكي للغاية في توقيته لأنه يوصلنا الى نتيجة أن عُلا قررت ربما للمرة الأولى أن تعيش على سجيتها، دون التورط في القوالب والتصنيفات والسيناريوهات التي يرسمها لها الاَخرون.
الحُب كأفضل وصفة للتصالُح مع الماضي
كان لقاء علا مع كريم بمثابة فُرصة ليتصالح كُل منهما مع الماضي العالق، وبالرغم من أن معظم المُشاهدين استنتجوا بأن كريم جاء ليُعدل ويغير حياة عُلا للأفضل وُينقذ مشروعها الذي كان قد أوشك على الفشل، وسيرورتها التي كانت قد أوشكت على الانهيار، إلا أن الحقيقة الأجمل بأن عُلا أيضا استطاعت ان تُغير حياة كريم وتُعيده للتفكير بماضيه وعلاقته مع أهله، وبالأخص علاقته مع ذكرى والده، وأيضا علاقته مع الأرض، جَعلته يتصالح مع سنين طويلة كان يحاول تجاهلها والهرب منها، وهُنا نرى أن عُلا ربما للمرةِ الأولى تكون هي الفعل وليس مجرد رد فعل ولهذا بدت هذه العلاقة مميزة أكثر من أي علاقة خاضتها عُلا وكان يليقُ بها ان تكون خِتام الجُزء الثاني رغم ما تحمل من مُنغِصات.

Comments